الملكة:
صفحات مطویة من تاریخ نساء دمشق یخبرنا التاریخ الكثیر عن نساء بلغن من الشھرة أوجھا، ومن العلا عظمتھ، لكنھ نادراً ما یذكر ملكة دمشق "صفوة الملك زمرد خاتون" وقد یتعجب المرء عندما یكتشف أن ھذه الملكة المنسیّة ھي ابنة ملك وأخت ملك، وزوجة ملكین، وأم ملكین وجدة ملك، ّ فحق فیھا القول: لقد جمعت المجد من جمیع أطرافھ ومع ذلك لفّھا النسیان وكفّنھا حتى قبل أن تموت. بعد خمس وثلاثین سنة من احتلال الفرنجة الصلیبیین، بزغ نجم جدید اجتذب الأنظار إنھ: "عماد الدین زنكي" الذي استطاع أن ّ یوحد تحت إمرتھ الموصل وحلب وحماة وحمص ولم یستطع الوصول إلى دمشق لأنھ كان یحكمھا "بوري" ابن "ظھر الدین صغتكین". تزوج "بوري" من فتاة اسمھا "زمرد" واتخذت لقب "صفوة الملك" لكن قبل الزواج منھ كان لھا ماض طویل في الملكیة، فأبوھا ھو الأمیر جاولي صاحب القدس، وعمھا "اتسز" كان ملك دمشق، كما كان الملك "تتش بن ألب أرسلان" زوج أمھا وصاحب دمشق من بعد، وكان أخوھا لأمھا "دقاق" ملك ھذا البلد یوم وصل الصلیبیون "سنة 1099/493" بلاد الشام، ثم تزوجت من "بوري ابن طفتلین" وملكت معھ مملكة دمشق سنوات، فلما مات تسلّم الحكم ابنھا الأول إسماعیل. یخبرنا المؤرخ الدمشقي ابن القلانسي الذي كان أحد كتّاب "إسماعیل": ... مبالغتھ في ارتكاب القبائح والمنكرات، وإیغالھ في اكتساب المحظورات الدالة على فساد التصویر والعقل وظھور الجھل وحب الظلم وعدولھ عن ما عرف عنھ "من قبل" من مضاء العزیمة في مصالح الدین والمسارعة إلى الجھاد في الأعداء... وكان قواده وأعوانھ أسوأ منھ، فھم دائماً مشغولون بالنھب ومصادرة الأموال بفنون قبیحة اخترعوھا في أنواع العقوبات، فضاق إسماعیل منھم وكاتب "عماد الدین زنكي" لیسلمھ البلد. ّ وجن جنون الأمراء والمقدمین ووجوه العسكر الخ.. وعلى رأسھم والدتھ "زمرد صفوة الملك" لأنھ إذا تسلّم زنكي البلد سوف یضیعون وتضیع مصالحھم وأموالھم، ولم ت ِ مض أیام حتى شھدت قلعة دمشق مشھداً فریداً لم تعرفھ من قبل ولا من بعد: الملكة- الأم صفوة الملك- واقفة في صدر قاعة العرش وممالیكھا یمزقون ابنھا بالسیوف وھو یستغیث: زنھار..! زنھار "أمان! أمان" وھي: وجھ كالصخرة قد جمدت علیھ كل العواطف. وحین ھمدت الأشلاء استدعت الناس لیروا الجثة، ثم نصبت للملك ابنھا الآخر شھاب الدین محمود، ولكنھا منذ تلك اللحظة صارت معھ صاحبة الأمر والنھي... ووقفت تنافح زنكي وتدافعھ عن البلد. وخطرت لزنكي خاطرة سیاسیة شیطانیة لماذا لا یتزوجھا ویكسب دمشق؟ وأرسل یخطبھا بالفعل وترددت المراسلات سراً أول الأمر، ثم ّ ضج البلد بالخبر وبأنھا لا تمانع، حتى كبار قواد المملكة وجدوا في ذلك الخلاص من یدھا القویة فباركوا قبولھا... وندب من دمشق وفدٌ قصد مخیم زنكي عند حمص لیتولى العقد، ولكنھم ما إن جھزوا الملكة وأخرجوھا من دمشق لتلحق بزوجھا حتى أغلقوا جمیع أبواب دمشق دونھ ودونھا... لكن زنكي لم یكن یرید "زمرد" التي كانت قد كبرت وشابت، بل یرید دمشق، وعندما رأى أن صفقتھ خسرت أرسلھا إلى حلب تنتظر وتنتظر حتى بدأت تغرق في ھوة النسیان. بعد سنة من ذلك قتل ابنھا محمود في فراشھ بقلعة دمشق في مؤامرة من أخیھ غیر الشقیق محمد، فتقطعت آخر أسبابھا مع دمشق، ومع أنھا ّ حرضت زوجھا زنكي على أخذ البلد، ومع أنھ أراد انتھاز ھذه الفرصة، إلا أن نتیجة المحاولة لم تكن أكثر من احتلال بعلبك من أعمال دمشق. ولم یعد أحد بعد ذلك یھتم بـ"زمرد صفوة الملك" التي قضت بعد ذلك ثماني سنوات من الوحدة والإھمال في حلب، ولما قتل زوجھا زنكي في حصاره لبعض قلاع الفرات لم َ یبق لھا مقام حتى في حلب. فانطلقت إلى دمشق ولكن كانت قد تغیّرت، فقررت السفر إلى بغداد، ولكنھا لم َ تلق في العاصمة العباسیة الترحاب الذي كانت ترجو، فذھبت إلى الحج، ولما انقضى الحج، بقیت في المدینة المنورة. ومضت السنون، وعفا النسیان على كل خبر لھذه المرأة التي كانت تغربل القمح للناس كي تعیش، وتخدم الناس كي تأكل مع أنھا في جوار التسعین، حتى توفیت ذات یوم من عام 557ھـ / 1161م ودفنت في مقبرة البقیع. قلائل من أولئك المشیعین المعدودین كانوا یعرفون أنھا ھي نفسھا الملكة زمرد خاتون صفوة الملك، ملكة دمشق!.