في الحقيقة تؤثر العديد من العوامل على التفضيلات الغذائية التي يطورها الأطفال في حياتهم المبكرة، وأحد هذه العوامل هو على الأرجح ما أكلته أمهاتهم أثناء الحمل بهن.

وهذا ما يفتح أمامنا نافذة للتفكير في عجائب الحياة البشرية وعمق التواصل بين الأم وجنينها في مرحلة الحمل، إنها رحلة سحرية من الحب والعطاء، حيث تنتقل التغذية عبر جسم الأم إلى الجسم الصغير داخل رحمها، لكن تأثيرها يمتد إلى النمو والتطور الصحي للجنين ولا يقتصر على فترة الحمل فحسب، بل يمكن أن يكون له تأثير طويل الأمد على صحة الطفل بمرور الزمن.

إن هذا العلاقة الرائعة تظهر لنا مدى قوة وأهمية تغذية الأم في بناء جسم الجنين وتكوين أعضائه وأنظمته المختلفة، وما يزيد من إثارة هذا الموضوع هو أنه يشكل تحديًا كبيرًا للأمهات في اختيار الأطعمة الصحيحة والمتوازنة خلال فترة الحمل، وذلك لضمان توفير الغذاء الأمثل لجنينها.

هل يتطور التذوق في الرحم؟

 يمكن للأطفال الذين لم يولدوا بعد (الأجنة) اكتشاف نكهة الأطعمة التي تتناولها أمهاتهم، حيث تبدأ حاسة التذوق لدى الطفل بالتشكل عند الأسبوع الثامن من الحمل، وذلك عندما تظهر براعم التذوق الأولى، حيث يبتلع الجنين في ذلك الوقت من ¾ كوب إلى 3 أكواب من السائل الأمنيوسي يوميًا، وتنتقل النكهات من النظام الغذائي للأم الحامل إلى السائل الأمنيوسي، كما يحتوي السائل على العديد من مركبات التذوق مثل السكريات مثل الجلوكوز والفركتوز والأحماض الدهنية والأحماض الأمينية والبروتينات والأملاح.

ولهذا السبب يختبر الأطفال بالفعل أنماط ذوق الأم قبل فترة طويلة من بدء تناول الطعام بأنفسهم، وبحلول الوقت الذي يولد فيه الطفل، تكون حاسة التذوق هي الأكثر تطوراً لديه.

لماذا تهم تغذية الأم الحامل ؟!

إن ما تأكله الأم الحامل قد لا يؤدي فقط إلى حساسية الجنين للروائح والنكهات المرتبطة ببعض الأطعمة، بل يمكن أن يؤثر ذلك بشكل مباشر على ما يأكله ويشربه الرضيع في المستقبل، وهذا أحد الأسباب التي تجعل من المهم للأمهات اتباع نظام غذائي صحي، فإذا تناولتي طعاماً صحياً، فقد يفضل الطفل الطعام الصحي.

على سبيل المثال، وجدت دراسة أخرى أن النساء اللاتي شربن عصير الجزر أثناء الحمل أو الرضاعة، أصبح طعم الجزر مألوفًا لدى أطفالهن.

كيف يتفاعل الأطفال مع طعام أمهاتهم في الرحم ؟

تبتسم الأجنة بين الأسبوعين 32 و36 من الحمل أو تعبس استجابةً للطعام الذي تتناوله أمهاتهم، وهذا في دراسة نشرت في العدد الأخير من مجلة psychologytoday.

واستخدم فريق البحث فحوصات بالموجات فوق الصوتية رباعية الأبعاد، والتي تنتج مقاطع فيديو ثلاثية الأبعاد للأجنة في الرحم، لمعرفة كيف كان تفاعل الأطفال الذين لم يولدوا بعد من 100 امرأة حامل مع الطعام الذي تناولته أمهاتهم، حيث أعطيت كل أم كبسولة تحتوي على مسحوق الجزر أو الكرنب قبل 20 دقيقة من الفحص بالموجات فوق الصوتية، فلما تم استخدام الحبوب بدلاً من الجزر أو الكرنب الطازج لم يكن للكبسولات أي رائحة أو طعم تقريبًا ولم تطلق نكهتها الكاملة إلا بمجرد ذوبانها في الأمعاء الدقيقة.

استجابت الأجنة التي تعرضت للطعم الحلو للجزرة بشفاه مقلوبة وتعبيرات "الوجه الضاحك"، في حين أن أولئك الذين تعرضوا للطعم المر للكرنب أبدوا تعبيرات "وجه غير ضاحك" بدلاً من ذلك.

تتطور الحواس وتعبيرات الوجه طوال فترة الحمل

تظهر براعم التذوق في الأسبوع الثامن من الحمل لدى الأجنة البشرية ويمكنها اكتشاف جزيئات التذوق في السائل الأمنيوسي في حوالي 14 أسبوعًا، وبحلول الأسبوع 24 يمكن للأجنة شم الجزيئات ذات الرائحة النشطة في السائل من خلال فتحات الأنف المفتوحة حديثًا.

في هذه الأثناء، تتطور عضلات وجه الجنين، وتصبح تعابير وجههم أكثر تعقيدًا على مدار فترة الحمل، فبدءًا من الثلث الثاني من الحمل، تشبه تعابير وجههم الابتسامات والعبوس التي سيصنعونها بعد الولادة.

كيف تؤثر الخيارات الغذائية أثناء الحمل على تفضيلات الطفل المستقبلية

إن النظام الغذائي للأم أثناء الحمل هو إحدى الطرق التي يتم بها تعريف الأطفال بالنكهات الجديدة، والتي يمكن أن يكون لها تأثير طويل المدى على طعام الطفل، فقد يكون الطفل الذي يتذوق الكرنب في كثير من الأحيان في الرحم أقل عرضة لرفضه عندما يتم إطعامه له بعد الولادة.

حيث أوضح الباحثون أن هذا التعرض المتكرر للنكهات قبل الولادة يمكن أن يساعد في تحديد تفضيلات الطعام بعد الولادة، وهو ما قد يكون مهمًا عند التفكير في الأكل الصحي.

• حب الخضار

في تجربة أخرى أجراها الباحثون، شملت مجموعة واحدة من الأمهات شربن 300 مل من عصير الجزر أربعة أيام في الأسبوع لمدة ثلاثة أسابيع خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، ومجموعة ثانية فعلت الشيء نفسه خلال الشهرين الأولين من الرضاعة الطبيعية.

وكانت النتيجة أن الأطفال الذين تذوقوا تركيزات عالية من الجزر في الرحم وفي حليب أمهاتهم، تناولوا بسعادة المزيد من الجزر أثناء الفطام، كما أن الأجنة التي تتعرض للثوم في الرحم أكثر عرضة لتفضيل الثوم في وقت لاحق من الحياة، وبالفعل تظهر الدراسات ذلك حتى سن الثامنة على الأقل.

• الإسراف في تناول الوجبات السريعة

سعت ورقة بحثية نُشرت العام الماضي إلى فهم الآليات التي تجعل الأطفال الذين تناولت أمهاتهم الكثير من الوجبات السريعة أثناء الحمل، يميلون بشكل متزايد إلى تناول الوجبات السريعة بأنفسهم، فالوجبات السريعة رغم أنها مستساغة للغاية، فهي كثيفة الطاقة لكنها فقيرة بالمغذيات؛ لذا من المحتمل أن الأطفال سيحبون مذاق هذا الطعام حتى لو كان غير مألوف لأنه يروق لميولنا الفطرية.

ولكن ما وجده الباحثون في جامعة أديلايد في أستراليا هو أنه بعد التعرض للوجبات السريعة في الرحم، ومن خلال حليب الثدي، تصبح مسارات المكافأة الدماغية أقل حساسية تجاهها - بنفس الطريقة التي يحتاج بها مدمنو المخدرات إلى جرعات متزايدة من المخدرات للحصول على المكافأة- بكلمات أخرى طفلك سيحتاج للمزيد من الوجبات السريعة باستمرار لأنها لم تكفيه !